حيرة المقبلين على الزواج بين الكبت والإباحية: أزمة القيم والتحولات الاجتماعية

في ظل المتغيرات المتسارعة التي تعصف بالمجتمعات المعاصرة، يشهد الشباب المقبل على الزواج حالةً من الاضطراب الثقافي والنفسي الحاد، تقف فيها العادات والتقاليد الأصيلة من جهة، أمام طوفان الانفتاح الرقمي والإباحية من جهة أخرى. وبين هذين النقيضين، تتجسد معاناة جيلٍ يحاول فهم ذاته وتحديد مواقفه الأخلاقية، وهو مشدود بين نداءات الحياء ومفاهيم الحرية، بين القيم المحافظة والمغريات الحديثة، بين الكبت والإباحية.

أولًا: السياق الاجتماعي والثقافي للمسألة

ظلَّت المجتمعات العربية والإسلامية لعقود طويلة تحافظ على نظام قيمي صارم، يفرض قيودًا اجتماعية ودينية صارمة على العلاقات بين الجنسين قبل الزواج، ما أدى إلى نشوء نمط من “الكبت الجنسي” الذي كان يُنظر إليه على أنه وسيلة للحفاظ على الطهارة والالتزام الأخلاقي. غير أن هذا النموذج شهد تصدّعًا متزايدًا في العقود الأخيرة، نتيجة الانفجار الإعلامي، ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار المحتوى الإباحي بشكل غير مسبوق.

إن تراجع رقابة الأسرة والمجتمع، مع اتساع الفجوة بين الأجيال، وغياب خطاب ديني وتربوي قادر على مخاطبة الشباب بلغة العصر، كل ذلك أسهم في تغذية حيرة المقبلين على الزواج، الذين لم يعودوا يعرفون كيف يحددون سلوكهم تجاه الجسد والرغبة والآخر المختلف عنهم جنسيًا.

ثانيًا: الكبت الجنسي وآثاره النفسية والاجتماعية

الكبت ليس مجرد امتناع عن الفعل الجنسي، بل هو تراكم مشاعر وأفكار ورغبات غير مصرح بها، تُحبس في داخل الإنسان بسبب الضغوط الدينية أو المجتمعية أو الأسرية. هذا الكبت قد يتحوّل إلى اضطرابات نفسية وسلوكية، منها القلق، والاكتئاب، والتوتر، والتفكير القهري، إضافة إلى سلوكيات مثل التحرش أو الانفجارات السلوكية غير المتوقعة.

يشعر كثير من الشباب المقبلين على الزواج، خصوصًا في البيئات المحافظة، أن الزواج هو المخرج الوحيد والمشروع من هذه المعاناة الطويلة، لكنهم يُفاجَأون بعد الزواج بغياب النضج العاطفي أو ضعف الثقافة الجنسية، ما يؤدي إلى حالات من التنافر الجنسي، أو حتى فشل العلاقة الزوجية.

وتُظهر دراسات نفسية وسوسيولوجية متعددة أن الأشخاص الذين نشأوا في بيئة تفرض كبتًا شديدًا دون توعية أو حوار صريح، يكونون أكثر عرضة للتشوهات في تصور العلاقة الزوجية، حيث يُختزل الزواج في المتعة الجنسية فقط، دون إدراك الأبعاد العاطفية والنفسية والشراكة الحياتية.

ثالثًا: الإباحية وسراب الحرية

على الجانب الآخر، لا يقل خطر الإباحية عن خطر الكبت. فقد انتقلت المجتمعات من ثقافة الحياء والخصوصية إلى ثقافة الانكشاف الكامل، حيث يُعرض الجسد في الفضاء العام كسلعة، وتُمارَس العلاقات الجنسية على الشاشات دون أي قيود أو حواجز.

الإباحية لا تقدم نموذجًا صحيًا للحب أو الرغبة أو العلاقات، بل تخلق تصورًا مشوَّهًا عن الجنس، حيث يُفصل عن القيم الإنسانية والروحية، ويتحوّل إلى عملية ميكانيكية باردة. كما أنها ترسّخ مفاهيم غير واقعية عن الأداء الجنسي والشكل الجسدي، مما يولّد ضغطًا نفسيًا شديدًا على الطرفين.

وقد أظهرت الأبحاث أن التعرّض المستمر للمحتوى الإباحي يؤدي إلى ما يُعرف بـ”إدمان الإباحية”، وهي حالة تجعل الشخص عاجزًا عن التفاعل الجنسي الطبيعي، ويُصاب تدريجيًا بانخفاض الرغبة، وصعوبات في الانتصاب، وفقدان الإشباع في العلاقة الزوجية.

كما تسهم الإباحية في تدمير التوقعات الواقعية، فالشخص الذي يتشبع بصور مفبركة ومُنمَّقة يبدأ برؤية شريك حياته على أنه لا يرقى إلى “النموذج المثالي”، مما يزرع بذور النفور والخيانة والإحباط.

رابعًا: الصراع الداخلي والتشوش في الهوية

الشباب المقبلون على الزواج يعيشون صراعًا داخليًا معقّدًا، يراوح بين الشعور بالذنب من الرغبة، والخوف من الوقوع في الحرام، وبين التوق إلى الحرية والانعتاق من القيود، وبين الإحساس بالضياع في عالم افتراضي مشبع بالصور والرغبات.

هذا الصراع يُحدث شرخًا في الهوية النفسية والجنسية للفرد، فيفقد البوصلة التي تمكّنه من التفاعل السوي مع ذاته ومع الآخر. وتزداد الأزمة حين لا يجد هذا الشاب أو هذه الشابة من يحتضنهم فكريًا، ويوجههم بلغة العصر بعيدًا عن الترهيب أو التبرير، فينتهي الأمر بكثير منهم إلى ازدواجية سلوكية، أو انفجار عاطفي في غير محله.

خامسًا: آثار الأزمة على العلاقة الزوجية

حين يدخل الشاب أو الفتاة إلى الحياة الزوجية، حاملًا هذا الإرث من التناقضات، يصبح من الصعب بناء علاقة متوازنة ومستقرة. فالشخص الذي عاش مكبوتًا قد يتعامل مع العلاقة الزوجية كمجال لتعويض ما فاته، دون مراعاة مشاعر الطرف الآخر، بينما من أدمن الإباحية قد يجد صعوبة في التفاعل العاطفي الحقيقي، لأنه اعتاد على نمط جنسي وهمي لا وجود له في الواقع.

وينعكس هذا الاضطراب على جودة الحياة الزوجية، ومعدل الطلاق، وانتشار البرود الجنسي، والعجز عن بناء تواصل نفسي حقيقي، فضلًا عن اضطرابات الثقة المتبادلة، وانعدام الحوار.

سادسًا: الحاجة إلى خطاب جديد ومقاربات واقعية

الحل لا يكمن في التهويل من مخاطر الإباحية فقط، ولا في فرض قيود اجتماعية صارمة تزيد من الكبت، بل في إيجاد خطاب تربوي وديني جديد، يوازن بين الطهارة والانفتاح، ويعلّم الشباب كيف يتعاملون مع غرائزهم دون خوف أو خجل، وكيف يعيشون علاقاتهم العاطفية ضمن إطار من النضج والوعي.

المقاربات الواقعية تشمل:

• إدراج التربية الجنسية والنفسية ضمن المناهج التعليمية بطريقة تراعي القيم الثقافية والدينية، وتمنح المعلومات الصحيحة بشكل علمي ومنهجي.

• تعزيز دور المؤسسات الأسرية والدينية لتكون سندًا حواريًا، لا قيدًا قمعيًا.

• توفير محتوى إعلامي بديل ومعتدل، يقدّم نماذج إيجابية للحب والزواج والعلاقة بين الجنسين.

• معالجة الإدمان الإباحي من خلال مراكز متخصصة، مع توعية المجتمع بعدم وصم من يعانون من هذه المشكلة.

• إشراك علماء النفس والاجتماع في تطوير خطاب يتماشى مع التحديات الرقمية والوجدانية التي يواجهها الجيل الجديد.

سابعًا: الجدول المقارن بين آثار الكبت والإباحية

ثامنًا: نحو التوازن بين الغريزة والقيم

ليس الهدف من هذه المناقشة ترهيب الشباب أو تقييد حريتهم، بل مساعدتهم على فهم أنفسهم وإدارة مشاعرهم برُشد. إن الغريزة الجنسية ليست عيبًا، بل نعمة خلقها الله لتكون أداة للتواصل والامتداد الإنساني، لكن هذه الغريزة يجب أن تُصان وتُوجَّه ضمن إطار من المسؤولية والاحترام.

إن التوازن بين الكبت والإباحية يعني الوصول إلى منطقة وسطى، يكون فيها التعبير عن الرغبة ممكنًا، لكن دون انزلاق نحو الاستهلاك أو الابتذال. منطقة تُبنى فيها العلاقة الزوجية على أسس من التفاهم، والحب، والقبول المتبادل، لا على الخوف أو الخيال المشوّه.

في المجتمعات التي تعاني من اختلالات بين هذه الأقطاب، يجب أن تُطلق مبادرات شاملة تربط بين الأسرة، والمؤسسة التعليمية، والفضاء الإعلامي، والخطاب الديني، لمعالجة هذا الملف الحساس بعيدًا عن النكران أو التغاضي.

المصادر:

1. مجلة علم النفس الاجتماعي التطبيقي – العدد الخاص حول تأثير الإباحية على العلاقات الزوجية.

2. “الهوية الجنسية بين الدين والمجتمع” – دراسة سوسيولوجية من مركز دراسات العالم العربي.